السبت، 25 يوليو 2015

حوارٌ في الظلام


قررت في اليوم الأخير من رحلتي إلى مدينة فيينّا أن أزور متحف يسمى ب(Dialog in the Dark) أي حوارٌ في الظلام. فكرة هذا المتحف مبنية على جولة تقوم خلالها بزيارة غابة، وجبل، ثم تقوم بعبور الشارع في إحدى المدن لتنتقل إلى معرضٍ فني لتذوق بعض الأعمال والقطع الفنية، وبعد ذلك تبدأ رحلتك في قاربٍ صغير حيث تنتهي الرحلة في مقهىً خشبي تشرب فيه شيئاً قبل مغادرتك للمتحف. كل هذا يبدو طبيعياً، إلى أن تدرك أنك ستقوم بهذه الجولة في قاعةٍ مظلمة، لا ترى فيها شيئاً! 

دخل شخصٌ مكفوف إلى قاعة الانتظار ونادى على اسمي وقال: "أنا صديقك (فريدريك) سأقوم اليوم بمساعدتك في هذه الجولة". فسألته بسذاجة، هل بإمكانك رؤيتي؟ قال لا، ولكن بإمكاني سماعك، وهذا يكفيني. أخذ فريدريك يحدثني عن بعض أساسيات المشي والتنقل للمكفوفين، فقال لي إنك يجب أن تجعل طرف العصا يلامس الأرض أمامك وتحركها بشكلٍ نصف دائري باستمرار أثناء المشي حتى تتأكد من أن الطريق سليمٌ أمامك، وعليك دائماً أن تمشي بجانب الحائط وأن تضع يدك على الحائط باستمرار، وأخيراً، لا تتوقف أبداً إذا كنت تعبر الشارع، فإذا وقفت لن تعلم عندها في أي اتجاهٍ سوف تسير. 

بدت كل هذه التعليمات بديهيةً بالنسبة لي إلى أن بدأنا رحلتنا في الظلام. وقفت في وسط القاعة المظلمة، بعيداً عن الحائط وأنا لا أملك إلاّ تلك العصا وصوت فريدريك وهو يقول لي: "استمر في المشي"، فقلت له: "هل بإمكانك مساعدتي لأعرف الاتجاه؟ لا أستطيع رؤية شيء؟". فقال لي: "نحن لا نتبع الضوء، نحن نتبع الصوت". انتابتني رغبةً شديدةً في البكاء، لم أشعر يوماً بقيمة البصر مثل تلك اللحظة، فالحمدلله أولاً وأخيراً على تلك النعمة.

كل شيءٍ في الحياة يبدو مسلّماً وطبيعياً إلى أن نفقده. فلم أعلم يوماً أن نصف دقيقةٍ في الظلام ستجعلني أتأمل في حياة المكفوفين حولي، ولم أشعر أبداً بمعاناة كل من فقد بصره، حتى أدركت بعد ذلك أننا إذا أردنا الوصول ولم نرَ الطريق، علينا أن نشعر به. 

استمرت الرحلة طويلاً، وانتهى بنا المطاف في المقهى المظلم، لم أستطع رؤية شيءٍ هناك إلاّ أنني تحسست بيدي أنه مقهىً خشبي. توقفنا هناك لشرب الماء والحديث، فسألني ماهي هواياتك؟ فقلت له التصوير، فقال أخبرني عن الأشياء التي تحب تصويرها، فأخبرته عن فكرتي لمشروع التصوير القادم، أُعجب جداً بالفكرة وقال لي: "هل تملك حساباً على الانستجرام تضع فيه أعمالك"؟ فقلت له نعم. فطلب مني عنواني لمشاهدة الصور. فقلت له: "عفواً، ولكن كيف تشاهد الصور"؟ قال لي إن هناك صديقٌ يقوم برؤية الصور ويشرح تفاصيلها له فيتخيلها، وبالتالي يستطيع رؤيتها، فما أعظم ذلك الصديق!

"حين نقدّر قيمة النعمة، حين نتمكن من التعايش مع أنفسنا وتقدير غيرنا، حين نعلم أن الفقد لا يعني النهاية، حين نشكر الله تعالى عل كل شيءٍ حولنا، ندرك تماماً بأن الحياة رائعة". هكذا قلت لنفسي بعد خروجي من تلك التجربة. لا تكمن السعادة في رؤية الأشياء فقط، لكنها توجد في معرفة الطريق الصحيح إليها. لم يقم فريدريك بمساعدتي فقط في معرفة الطريق الصحيح بالرغم من أنه لم يكن يراه، بل ساعدني في الوصول إلى تقدير كل ما حولي.

هناك 6 تعليقات :

  1. قال لي إن هناك صديقٌ يقوم برؤية الصور ويشرح تفاصيلها له فيتخيلها، وبالتالي يستطيع رؤيتها، فما أعظم ذلك الصديق!
    هولاء الآصدقاء الذين يعطون لذة الحياة لمن معهم يستحقون حبا كحب الحياة .. يمنحون الامل كحجم الحياة ليرفعون بها رايات احلام كادت ان تضل طريقها !

    شكرا لك كتابة تمس القلب

    ردحذف
  2. الحمدلله على نعمة البصر .. الموقف كان صعب.. وتجربة غريبة ف متحف مظلم ..
    جميل أن نتعايش بمثل هذه تجارب مع الغير

    اعجبني المقال كثيراً

    ردحذف
  3. سبحان الله يوم الانسان يفقد شي الله يرزقه بشي افضل الا وهي القناعة، قناعته بانه يقدر يتعايش مع ما أصابه. فكرة المتحف جدا جميلة، احنا نسير المتاحف عشان نشوف شو فيها من اثار ومعالم، ف لولا نعمة البصر جان ما شفنا شي، يعني الدرس الي تعلمته كان ف المكان المناسب. حوار في الظلام 👍🏼

    ردحذف
  4. تجربة تستحق الكتابة حقا كانت كالقصص التي نأخذ منها العبر الكثيرة ونستشعر معها كل حرف

    ردحذف
  5. مقال جميل يلمس الاحساس ،،، شكراً 🌹

    ردحذف
  6. تجربة جريئة

    عن نفسي ما اتجرأ أجرب شي جي

    ردحذف