الأربعاء، 20 أبريل 2016

رحيل جدي




كانت الساعة الثامنة والنصف مساءً عندما أخبرني أخي ياسر بأن حالة جدي عبدالله قد انتكست في المستشفى، تركت كل الأعمال التي كنت أقوم بها وانطلقت كالمجنون إلى مستشفى دبي. حيث ودعت جدتي فاطمة قبل ثلاثة أعوام تقريباً. لا أعلم ما هو الطريق الذي أخذته، كل ما أعلمه أنه كان طريقاً مليئاً بالدعاء والذكريات، الدعاء لجدي وذكريات جدتي.

وصلت إلى غرفته فرأيت جدي على السرير وعمتي "موزة" تقف بجانبه، تقرأ القرآن وتدعي له، وفي محاولة منها لتخفيف ثقل المشهد قالت لنا أن جدي استيقظ في الساعة الرابعة ليسأل عن أبي سعيد وعمي أحمد، فأخبرته أنهم في الطريق، فقال لها: "إذا وصلوا وما شفتهم، قوليلهم إنّي راضي عليهم". لم أتمكن من الوقوف في الغرفة، فخرجت وقد امتلأت عيناي بالدموع. أدركت حينها أن رضا الوالدين من أعظم أمور الدنيا. استمرت عمتي بالدعاء واستمرت حالة جدي بالتحسن، حتى أخبرتنا الطبيبة بأن حالته قد استقرت. فعدنا إلى منازلنا. 

في طريق العودة تساءلت كثيراً، لماذا أراد جدي أن يخبر أبناءه بأنه راضٍ عنهم؟ كان أبي وعمي مثالاً في صلة الرحم، ولا أنسى اتصال أبي في كل جمعةٍ بعد الصلاة ليسألني إذا ذهبت إليه أم لا. كنت  أجد أبي وعمي في كل مرةٍ أقوم فيها بزيارة جدي. كان رحمه الله بسيطاً جداً، يحدثنا عن ماضيه، وعن أصدقائه وعن أجدادي. حيث أخبرني مرةً عن تاريخ العائلة من مدينة أبوظبي، إلى الشارقة ورأس الخيمة، حتى استقرارنا في دبي. كان يسألني دائماً عن وظيفتي، وفي كل مرة يسألني من هو مديرك؟ وعندما أخبره بإسمه يقول لي: “سلّم عليه”. بالرغم من أنه لم يكن يعرفه، ولكنه كان يحب الناس، ويحب أن يعلموا بذلك. 

أكتب هذا النص وقد رحل جدي عبدالله (رحمه الله) قبل قليل. كان رحيله يشبهه جداً، بسيطٌ ومؤثر. وبعد أن قبّلت رأسه ورأيت أبي وعمي يبكييان بجانبه، عرفت تماماً لماذا أراد جدي أن يعلم أبناءه بأنه راضٍ عنهم ولماذا كانت هذه آخر الجمل التي قالها جدي قبل رحيله. قالها لكي يمنحهم الراحة والطمأنينة، لكي يرتاح أبي وعمي بعد رحيل والدهم بأنهم أدّوا أمانتهم تجاهه، وأنهم برّوا به وأحسنوا إليه خير الإحسان، حتى في آخر لحظاته في الدنيا. 

رحل جدي هادئاً، راضياً، مطمئناً بأنه قد ترك خلفه أبناء وبناتاً يحبونه، وأحفاداً يرون فيه مثالاً للرضا، يكملون مسيرته في هذه الدنيا، ويشعرون بالسعادة لأن اسمهم يرتبط بإسمه. قال لي أحد الأقارب قبل دفن جدي، أتعلم ماهو أعظم شيءٍ فعله جدك في حياته؟ إنها هذه الذرية الصالحة، لقد ترك جدّنا إرثاً عظيماً، وأجيالاً بإمكانهم أن يخففوا أي مصيبةٍ عليه، فقلت له، لذلك رحل راضياً عنّا. 

رحم الله جدي عبدالله وجدتي فاطمة وجدي أحمد وجدتي مريم، فقد قاموا بتربيتنا خير التربية، وتعلمنا منهم جميعاً. وبالرغم من حزني الشديد على فراقهم جميعاً، إلاّ أنني أشعر بالراحة التامة بأن الله منحني فرصةً للعيش معهم وفرصةً لتذكّرهم بعد رحيلهم، ومنحني فرصةً أيضاً لتوديعهم وداعاً يليق بهم.

الجمعة، 5 فبراير 2016

اتركوا تارانتينو



في لقاءٍ صحفي بعد فيلمه الأخير، سُئِل المخرج "كوينتين تارانتينو" عمّا إذا كان يفكر بإخراج فيلم يتعلق بالخيال العلمي في المستقبل، فقال: "لا بد أن الجمهورر يريد ذلك، في الواقع، إن هذا النوع يجذبني كثيراً لمشاهدته، ولكنّي لا أرى نفسي كمخرج، وكراوٍ للقصص في هذا النوع من الأفلام، لذلك فأنا لا أقدمه أبداً". 

المعروف أن "تارانتينو" قام بإخراج ثمانية أفلام كبيرة في مسيرته، ومعظم هذه الأفلام حصلت على العديد من الجوائز، ولكن الذي ميّزه عن غيره كان اختياره لأجواء الأفلام التي يقوم بإخراجها، حيث تبدو جميعها متشابهه، لا أعلم في ماذا، ولكنها جميعها تحمل بصمة "تارانتينو". 

بعد مشاهدة اللقاء تساءلت كثيرآ، لماذا يريد الجمهور تغيير المبدع؟ لماذا يريدون منه أن يصبح نسخةً لتحقيق أحلامهم، وإشباع رغباتهم؟ هل يجب أن يصبح المبدع منفذاً لما يطلبه الناس حتى يتقبلون ما يقدمه؟ لا أعتقد ذلك. فالمبدع الحقيقي هو من يعيش حياته في عزلةٍ فكريةٍ تامه، يقوم فيها بتجريد نفسه وأفكاره من كل المؤثرات التي لا تناسب ما يقدمه. لكي تصبح مبدعاً، عليك أن تحاور ذاتك، حتى في حديثك مع الناس. 

وفي أحد معارض التصوير التي أقمتها كانت اللوحات جميعها معروضةً بالأبيض والأسود، وكنت استقبل العديد من الإسئلة، لكن السؤال الأبرز بينها كان: "لماذا تعرض بالأبيض والأسود فقط؟ لماذا لا تعرض أعمالاً ملونة؟" وكنت أحاول كثيراً في شرح الأسباب التي دفعتني لذلك، حتى صارحني أحدهم قائلاً: “من الضعف أن يحبس الفنان نفسه في نوعٍ واحدٍ فقط من الفن، يجب أن يجرب الفنان كل شيء ويعرض كل شيء حتى يثبت للجمهور أنه متمكنٌ من فنه”.

 يريد البعض من الفنان أن يعيش تجربةً أفقية، يقوم فيها بالعمل على ما يريدونه هم، لا ما يريده هو، ويعرض فيها ما يعبجهم هم، لا ما يعجبه هو. لكن الفنان الحقيقي هو من يعيش تجربةً عمودية، يقوم فيها بالتعمق في مجاله، يبحث فيها عن نفسه، ويبحث فيها عن الفن الذي يناسبه. ولولا تعمق الكثير من الفنانين في مجالهم وتركيزهم عليه، لما اختلفوا عن غيرهم وتميزوا.  

لكل مبدعٍ في هذه الحياة خطُ يسير فيه ويجد فيه نفسه، وليس من الضعف أن يقضي حياته كلها، بطولها وبعرضها في السير على هذا الخط. فلا أظن أننا سنتقبل تارانتينو إذا قام بتقديم أفلام من نوعٍ آخر، كالخيال العلمي. ولا أظن أنني سأكون راضياً عن نفسي إذا قمت بتغيير لوحاتي من الأبيض والأسود إلى الألوان فقط لإرضاء رغبة زوار المعرض. لذلك، دعوا المبدع يرضي نفسه قبل الناس.

السبت، 25 يوليو 2015

حوارٌ في الظلام


قررت في اليوم الأخير من رحلتي إلى مدينة فيينّا أن أزور متحف يسمى ب(Dialog in the Dark) أي حوارٌ في الظلام. فكرة هذا المتحف مبنية على جولة تقوم خلالها بزيارة غابة، وجبل، ثم تقوم بعبور الشارع في إحدى المدن لتنتقل إلى معرضٍ فني لتذوق بعض الأعمال والقطع الفنية، وبعد ذلك تبدأ رحلتك في قاربٍ صغير حيث تنتهي الرحلة في مقهىً خشبي تشرب فيه شيئاً قبل مغادرتك للمتحف. كل هذا يبدو طبيعياً، إلى أن تدرك أنك ستقوم بهذه الجولة في قاعةٍ مظلمة، لا ترى فيها شيئاً! 

دخل شخصٌ مكفوف إلى قاعة الانتظار ونادى على اسمي وقال: "أنا صديقك (فريدريك) سأقوم اليوم بمساعدتك في هذه الجولة". فسألته بسذاجة، هل بإمكانك رؤيتي؟ قال لا، ولكن بإمكاني سماعك، وهذا يكفيني. أخذ فريدريك يحدثني عن بعض أساسيات المشي والتنقل للمكفوفين، فقال لي إنك يجب أن تجعل طرف العصا يلامس الأرض أمامك وتحركها بشكلٍ نصف دائري باستمرار أثناء المشي حتى تتأكد من أن الطريق سليمٌ أمامك، وعليك دائماً أن تمشي بجانب الحائط وأن تضع يدك على الحائط باستمرار، وأخيراً، لا تتوقف أبداً إذا كنت تعبر الشارع، فإذا وقفت لن تعلم عندها في أي اتجاهٍ سوف تسير. 

بدت كل هذه التعليمات بديهيةً بالنسبة لي إلى أن بدأنا رحلتنا في الظلام. وقفت في وسط القاعة المظلمة، بعيداً عن الحائط وأنا لا أملك إلاّ تلك العصا وصوت فريدريك وهو يقول لي: "استمر في المشي"، فقلت له: "هل بإمكانك مساعدتي لأعرف الاتجاه؟ لا أستطيع رؤية شيء؟". فقال لي: "نحن لا نتبع الضوء، نحن نتبع الصوت". انتابتني رغبةً شديدةً في البكاء، لم أشعر يوماً بقيمة البصر مثل تلك اللحظة، فالحمدلله أولاً وأخيراً على تلك النعمة.

كل شيءٍ في الحياة يبدو مسلّماً وطبيعياً إلى أن نفقده. فلم أعلم يوماً أن نصف دقيقةٍ في الظلام ستجعلني أتأمل في حياة المكفوفين حولي، ولم أشعر أبداً بمعاناة كل من فقد بصره، حتى أدركت بعد ذلك أننا إذا أردنا الوصول ولم نرَ الطريق، علينا أن نشعر به. 

استمرت الرحلة طويلاً، وانتهى بنا المطاف في المقهى المظلم، لم أستطع رؤية شيءٍ هناك إلاّ أنني تحسست بيدي أنه مقهىً خشبي. توقفنا هناك لشرب الماء والحديث، فسألني ماهي هواياتك؟ فقلت له التصوير، فقال أخبرني عن الأشياء التي تحب تصويرها، فأخبرته عن فكرتي لمشروع التصوير القادم، أُعجب جداً بالفكرة وقال لي: "هل تملك حساباً على الانستجرام تضع فيه أعمالك"؟ فقلت له نعم. فطلب مني عنواني لمشاهدة الصور. فقلت له: "عفواً، ولكن كيف تشاهد الصور"؟ قال لي إن هناك صديقٌ يقوم برؤية الصور ويشرح تفاصيلها له فيتخيلها، وبالتالي يستطيع رؤيتها، فما أعظم ذلك الصديق!

"حين نقدّر قيمة النعمة، حين نتمكن من التعايش مع أنفسنا وتقدير غيرنا، حين نعلم أن الفقد لا يعني النهاية، حين نشكر الله تعالى عل كل شيءٍ حولنا، ندرك تماماً بأن الحياة رائعة". هكذا قلت لنفسي بعد خروجي من تلك التجربة. لا تكمن السعادة في رؤية الأشياء فقط، لكنها توجد في معرفة الطريق الصحيح إليها. لم يقم فريدريك بمساعدتي فقط في معرفة الطريق الصحيح بالرغم من أنه لم يكن يراه، بل ساعدني في الوصول إلى تقدير كل ما حولي.

الخميس، 7 مايو 2015

حوار مع النفس



سألتني نفسي يوماً، "من تكون؟ أيها الواقف بيني وبين رغباتي؟ تمنحني قليلاً وتمنعني كثيراً. تأخذني صباحاً إلى السعادة، وتعود بي ليلاً. امنحني شيئاً من الوقت، شيئاً من الحرية في أن أكون أنا. في ممارسة أبسط عاداتي في التحليق بعيداً عنك".

أيتها النفس، قفي قليلاً وانظري إليّ، أنا لست سجّانك، ولست حارسك الذي يقف أمام قضبان الحرية. إنما أنتِ وأنا نقف معاً، أنتِ ظلي الذي لا يفارقني أبداً. نتشابه كثيراً، نعشق بعضناً، ونكره بعضنا، كأزواجٍ وقفوا متقابلين يوماً وأمطروا بعضهم بالوعود والكلمات، حتى جفّت السماء.

أيتها النفس، رغباتك مجنونة، تشبهك كثيراً، تأتيني كل يومٍ كشحاذٍ يقف أمامي، يطلب أشياء لا أحملها معي، ولا يسعني دفعها، فيقذفني ببعض الكلمات ويرحل. ويعود في اليوم التالي ليلقي علي همه ووجعه وأحزانه. أيتها النفس، كيف لي أن أنحني أمامك كل يومٍ مثل عبدٍ لا يملك القدرة على الطاعة، تحبسه الذكريات وتطلق الأحلام سراحه. 

إن الحرية التي تنشدينها إنما هي بقربي، بالوقوف هنا، بالتحليق معي، لا بالتحليق بعيداً عني. فالطير إن غنّى وحيداً على غصن الشجرة إنما يغني سجيناً، يحبسه الغصن، ولا يسمع إنشاده أحد. والباحث عن الحرية وحيداً لا يصل أبداً، مثل كتابٍ ممزق، مجهول البداية والنهاية.

أيتها النفس، كوني أنا، لا تكوني رغباتي فقط، ولا تجعلي من جسدي آلة لتحقيق رغباتك. اجعلينا أحراراً معاً، نحلق بعيداً معاً، حتى نقف على الغصن نفسه، فتسمعين إنشادي وأسمع إنشادك. فمتى كنتِ سعيدةً، كنت سعيداً. أيتها النفس، فلنصبح قصةً واحدةً في نفس الكتاب، كوني أنتِ صفحته الأولى واجعليني صفحته الأخيرة.

الجمعة، 1 مايو 2015

الموت على قيد الحياة


قام أحد الصحفيين في مقابلة تلفزيونية بسؤال الكاتب البرازيلي پاولو كويلو، كيف تريد أن يذكرك الناس بعد رحيلك؟ قال له پاولو: "إذا كان الناس سيذكرونني، فإني أود أن يتذكروا بأنّي شخصٌ حارب حرباً جيدة، واحتفظ بإيمانه. أريدهم أيضاً أن يتذكروا بأنّي وضعت كل ما أحب في عملي، حتى أنتجت كل هذه الكتب، وقد يبدو هذا كافياً. ولكن الأهم من هذا كله، أريد أن يقول عني الناس "لقد مات وهو على قيد الحياة".

لم أعلم حينها ماذا كان يقصد پاولو كويلو، إلى أن رأيت أشخاصاً لا أحلام لهم ولا رغبة في فعل المزيد، يكفيهم أن ينهضوا في الصباح للذهاب إلى العمل والعودة في نفس الوقت يومياً، وهذا هو إنجازهم. لكنهم لا يدركون بأنهم أموات، على قيد الحياة. الكثيرون منا اليوم يموتون قبل موتهم، يستسلمون للحياة دون تحدٍ ورغبةٍ في تحقيق المزيد، يخافون النظر إلى الأمام، ليس لخطورته، ولكن لجُبنهم. إن الذين يستسلمون للحياة، أقل شجاعة من الذين يستسلمون للموت.

بعد مشاهدة تلك المقابلة القصيرة، أدركت أن الموت لا يأتي عندما يتوقف القلب عن النبض، بل يأتي عندما يتوقف الإنسان عن الحلم والرغبة والاكتشاف. أدركت أيضاً بأن الإنسان المغامر، والذي يسعى لتحقيق أمرٍ ما يعيش أكثر من حياة، يحلم في الأولى، ويحقق حلمه في الثانية. قلت لنفسي: "هكذا يجب أن يعيش الإنسان".

إن المتعلقين بذكراهم لا يتقدمون أبداً، يرفضون النظر إلى الأمام، يظنون بأنهم بلغوا ذروة الحياة ومنتهاها، فلا شيء يستحق التجربة، ولا شيء يستحق الحلم، لأن الذكرى فوق هذا وذاك. إن الذين يعيشون على الذاكرة، لا يعيشون أبداً، تسجنهم أوقاتٌ لن تعود، تأخذهم بعيداً، إلى الوراء. إلى اللارغبة، واللاحلم... "الذاكرة تجعل الراغبين في الحياة موتى"، هكذا قال عنهم الكاتب وديع سعادة. 

أرفض الآن أن أتوقف عن أحلامي، أرفض أن أتخلى عن رغبتي بالاكتشاف والمغامرة والتجربة. لأن لحظة الوصول  إلى الحلم هي اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بأنه على قيد الحياة، هي اللحظة التي تجعلنا أقرب إلى ذواتنا، وإلى العالم، وإلى الحلم من جديد. لذلك، أرفض أن يقال عني بأنّي ميت، وأنا لا أزال على قيد الحياة.

الاثنين، 27 أبريل 2015

شكراً سبستيان



بعد الانتهاء من تصوير برنامج ما قل ودل لهذا الموسم في فرنسا، قررت البقاء لوحدي لأربعة أيام، أستغلها في التصوير والبحث عن شيءٍ لا أعرفه. وفي أول يومٍ أتى "سبستيان" وزوجته وابنه "كوتا" للقيام ببعض أعمال الصيانة في المنزل. وبعد انتهائه من عمله في ذلك اليوم، سألني إن كنت أعيش لوحدي هنا، (لم يكن يتحدث الإنجليزية، فكلما أراد أن يحدثني كان ابنه يقف بجانبه ليترجم لي ما يقوله). قلت له نعم، أنا لوحدي هنا، لأربعة أيامٍ فقط. نظر إلى عائلته، تحدث إليهم بالفرنسية وبدؤوا يضحكون. لم أفهم شيئاً مما قاله، لكنني كنت أعلم تماماً بأنهم يتحدثون عني، خفت قليلاً، اقترب "كوتا" مني وأخبرني بأن والده يريدني أن أحضر عشاءهم الليلة، لأن عائلتهم تحب أن تجتمع في نهاية الأسبوع. وبعد أن اعتذرت عن العشاء، طلب مني الذهاب معهم لمركز لعب "البولينج"، وأصرّ على ذلك، فوافقت أخيراً. 

وفي الطريق إلى هناك، سألت "كوتا"، لماذا أصر "سبستيان" على مجيئي معكم؟ فقال لي أنه رآني وحيداً، فقال لعائلته: "ليس من الصحيح أن نترك هذا الشاب وحيداً وقد استقبلنا استقبالاً جيداً في منزله". 

لم أكن أشعر بالوحدة في المنزل أبداً؛ لأن أصدقائي وكل الناس الذين أتواصل معهم كانوا في هاتفي، أتواصل معهم بالرسائل والفيديو أحياناً عن طريق برنامج "سناب شات". كنت أشعر بأن هذا هو التواصل الحقيقي، وأنني أقرب إليهم من أي وقتٍ آخر. 
في الحقيقة، كنت أشعر بالوحدة فقط كلما فتحت هاتفي ولم أجد رسالة من أحد، أو تعليقاً على صورة أو فيديو قمت بنشره مؤخراً.

لاحظت في تلك الليلة مع العائلة الفرنسية بأنهم لا يستخدمون هواتفهم بقدر ما نستخدمها، فكانوا يستمتعون بأصغر الأشياء وأبسطها، مثل لعبة البولينج، وتحدي البليارد. كما أنهم اجتمعوا على طاولة صغيرة لتناول قطعة من البيتزا والحديث عنها، دون أن يقوم أحدهم بتصويرها وإرسالها لأيٍّ من برامج التواصل الاجتماعي لإخبار الجميع بأنه يتناول البيتزا حالياً.

في الطريق إلى المنزل سألني "كوتا" إذا كنت أستخدم برنامج الانستجرام، وعندما رأى بأن لدي من المتابعين ما يقارب الستة آلاف متابع، قال لي: "إنك شخصٌ مشهور، لديك الكثير من المتابعين". ابتسمت وقلت له: "يعتبر هذا الرقم ضئيلاً جداً في مجتمعنا". قال لي: "لا أعتقد بأنّي سأصل إلى هذا العدد من المتابعين أبداً، فأنا استخدم الانستجرام للتواصل مع عائلتي، وأصدقائي في الجامعة، فيكفيني أن أعرف مالذي يفعلونه في حياتهم".

أدركت حينها بأن كثرة استخدامي لهذه البرامج انتزع مني شيئاً من الواقعية، وأن الحديث مع الآلاف من الأشخاص خلف الشاشات لا يساوي ساعةً واحدة من التواصل الحقيقي مع مجموعة من الأهل والأصدقاء، لذلك شعرت باستغراب عندما دعاني سبستيان لتناول العشاء معهم، غير أن الأمر كان طبيعياً جداً بالنسبة لهم. 

أكتب الآن وقد ازداد عدد متابعي صفحتي على الانستجرام، واقترب أكثر من الستة آلاف، بينما متابعي "كوتا" لم يتغير رقمهم أبداً، لأن أصدقاءه الحقيقيين لم يتغيروا، ولأن البرنامج يعتبر جزءاً إضافياً من التواصل بالنسبة له، وليس شيئاً أساسياً كما كان باعتقادي، فيالسعادته، ويالتعاستي.

الثلاثاء، 24 مارس 2015

الوقوف أمام لوحة



في رحلتي الأخيرة إلى مدينة لندن قمت بزيارة أحد معارض الفن والتصوير التي أحرص على زيارتها في كل مرة أكون فيها في تلك المدينة. كانت إحدى قاعات المعرض خالية تقريباَ إلاّ من لوحة لجبال جليدية متشققة تم تعليقها في صدر القاعة على برواز خشبي كُتب تحته: "مالذي تراه هنا؟". جلست طويلاً أمام تلك الوحة، أتأمل مالذي تعنيه. مسكت الورقة وكتبت عليها: "لكل شيءٍ نهاية"، وضعت الورقة في الصندوق وغادرت المعرض. لم تغادر هذه التجربة خيالي في طريق العودة إلى الفندق، هل فعلاً كانت اللوحة تعني أن لكل شيءٍ نهاية؟ أم أنّي كنت الوحيد الذي رآها بهذا السواد؟ 

لا أظن بأن الذي قام بهذه التجربة كان فعلاً يبحث عن الإجابة الصحيحة، فليس هناك تفسيرٌ صحيحٌ للفن. ولكن الهدف منها كان إقناع الناس بالنظر لمدة طويلة إلى صورة واحدة فقط، والبحث عن المعنى الذي تزرعه الصورة في النفس، لأننا أصبحنا فعلاً لا نقف طويلاً أمام صورةٍ واحدة لكي نبحث فيها ونفسر معناها. ولكثرة ما نرى يومياً من صورٍ في مواقع الانترنت ومواقع التواصل الإجتماعي تناسينا بأن الفن نوعٌ من أنواع التأمل، وأن الفن الحقيقي يكشف عن نفسه ببطء، ولا نستطيع الحكم على تأثير لوحة أو صورة علينا دون أن نوفيها حقها من الوقوف أمامها.

قال لي أحد الأشخاص المهتمين بالفن بأن الصورة بخير في ظل وجود العدد الهائل من الصور والمصورين الذين يتابعهم في مواقع التواصل الاجتماعي، فسألته متى كانت آخر مرة نظرت فيها إلى إحدى الصور لأكثر من خمس ثوانٍ؟ صمت طويلاً ثم قال: "لا أذكر". شعرنا حينها بخيبة الأمل، فقد كنا نظن بأن كثرة الصور ترفع من المستوى الفني لدى المشاهد، في حين أن العكس تماماً هو الصحيح، إذا كان المحتوى سطحياً.

الفن جزءٌ من العالم، وليس بعيداً عنه. والفنان الحقيقي هو الذي يؤمن بأن القيام بعمل فني شكلٌ من أشكال السفر. يذهب به بعيداً عن العالم لكي يعود بشيءٍ قريبٍ جداً من الناس، بعد تصفية نفسه من كل ما يعرفه عن هذا العمل. يأخذ وقته في البحث قبل البدء، لا يرضى بالأشياء العادية، لأنه يعلم بأنه يريد أن ينتهي بعملٍ من شأنه أن يقف أمامه لبعض الوقت، حتى يقف الناس طويلاً أمامه. تفتقد الصور التي نراها اليوم إلى المحاكاة، فالعلاقة الناجحة بين الفنان وعمله تُبنى على أساس المحادثة، يجب على الفنان أن يحاور عمله،  يتحدث إليه ويستمع إلى ما يقوله له، فلا يكفي أن تنفذ عملاً فنياً دون أن تبني تلك العلاقة بينك وبين ما تقوم به.

أقف طويلاً أمام أي فكرةٍ فنية قبل البدء بتنفيذها، فالفكرة لا يكفيها أن تكون جيدة فقط لكي تصل إلى الناس إلاّ إذا ما كان تنفيذها جيداً أيضاً، وإتقان الأسلوب الخاص بكل فنان يساعد في إيصال فكرة العمل. لأن الفنان يتحكم بعمله، لكنه لا يستطيع السيطرة على ردة فعل المشاهد. فإذا سألت أحدهم، ماذا يعني لك التكوين في الصورة؟ سيقول بأنه توزيع العناصر، وقد يقول لك شخصٌ آخر: "هي العلاقة التي يخلقها الفنان بين جميع العناصر في اللوحة". كل الإجابات صحيحة، لكن الإختلاف يكمن في عمق النظر والتأمل في اللوحة.

لا زلت أذكر تلك اللوحة التي وقفت أمامها، فالوقوف أمام لوحة يعني احترام العمل، يجردنا من كل ما يدور حولنا ويساعدنا على غسل غبار الحياة اليومية عن نفوسنا. فما أجمل أن ترى عملاً يساعدك على أن تجد نفسك، وتفقدها في نفس الوقت.